لمراد بطالب الخواص في هذا المبحث هو الفاعل (الراقي)، سواء كان الفاعل هو المريض أو من شخص غيره.
وخواص القرآن الكريم قائمة على اعتبار ما يترتب من قراءة، أو كتابة سورة، أو آيات معينة من القرآن الكريم في حدث خاص، ينتج عن تلك القراءة أو الكتابة فرج، أو شفاء، أو حل عسير ونحو ذلك.
وقد تقدم بيان ذلك في تعريف خواص القرآن الكريم.
ويدخل في هذا الرقية بالقرآن الكريم، وطلب الاستشفاء به، وإن كانت خواص القرآن الكريم أوسع من باب الرقى والاستشفاء بالقرآن الكريم – كما تقدم بيانه -فليست الخواص القرآنية خاصة بالأمراض دون غيرها، فهي تشمل هذا الباب كما تشمل ما يريده الإنسان من حصول مطلوب، أو دفع مكروه ونحو ذلك.
وعليه فتحسن الإشارة في مقدمة هذا المبحث إلى تعريف الرقية الشرعية، وبيان ضوابطها، كما ذكر ذلك أهل العلم.
تعريف الرقية
الرقية في اللغة:
قيل: هو العُوذة.
قال الأزهري: رقى الراقي رَقْيةً ورَقْياً, إذا عَوَّذ ونفث في عُوذتِه.
وقال ابن الأثير: الرّقية بالضم: العُوذة التي يُرقى بها صاحب الآفة، كالحمى والصرع، وغير ذلك من الآفات.
فالرقية هنا فسرت بالعُوذة، والعوذة بالرقية.
وقيل: إن الرقية هي العزيمة.
قال الجوهري: العزائم هي الرقى.
وقال ابن فارس: عزمت على الجني: وذلك أن تقرأ عليه من عزائم القرآن، وهي الآيات التي يرجى بها قطع الآفة عن المؤوف. أي: المريض.
وقال ابن منظور: العزائم هي الرقى، وعزم الراقي كأنه أقسم على الداء.
وقال الفيروزأبادي: العزائم: أي الرقى. وهي آيات من القرآن تقرأ على ذوي الآفات رجاء البرء.
وفي كتاب التوحيد: والرقى هي التي تسمى العزائم.
يقول الشيخ محمد العثيمين – يرحمه الله -: =وعزم عليه أي قرأ عليه، وهذه عزيمة أي قراءة.
فيتضح – مما تقدم – أن الرقية والعزيمة لفظتان مترادفتان في المعنى حيث تستعملان لمعنى واحد، وهو تعويذ صاحب الآفة لكي يشفى، ويحصل له البرء
– بإذن الله تعالى -.
قال ابن الشاطّ: وينبغي أن يكون حكم العزيمة حكم الرقية المشروعة إذا تحقق أن لا محذور في ألفاظ العزيمة.
فهو يرى أن العزيمة مرادفة للرقية منهما ما هو مشروع وممنوع.
فالمشروع يعمل به، والمردود ممنوع.
وبعض أهل العلم يفرق بين الرقية والعزيمة، كالقرافي، حيث يقول في ذلك:
الرقية ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من الأسقام والأدواء والأسباب المهلكة.
والعزيمة هي كلمات تعظمها ملائكة متصرفة في قبائل الجن، ويزعم أهل العزائم أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمرت بتعظيمها ومتى أقسم عليها بها أطاعت وأجابت، وفعلت ما طلب منها.
الرقية شرعاً:
الرقية في الشرع قريبة من المعنى في اللغة، فهي بمعنى التعويذ؛ والغاية منها طلب الشفاء، ورفع الداء.
وعليه فالرقية الشرعية: هي ما كان من الآيات القرآنية، والأدعية المشروعة، لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الرقى والتمائم والتولة شرك".
قوله: (إن الرقى) الرقى: جمع رقية، وهذه ليست على عمومها بل هي عام أُريد به خاص، وهو الرقى بغير ما ورد به الشرع، أمّا ما ورد به الشرع، فليست من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة: "وما يُدريك أنها رقية".
وهل المراد بالرقى ما لم يرد به الشرع لو كانت مباحة، أو المراد ما كان فيه شرك؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضاً، فالرقى المشروعة التي ورد بها الشرع جائزة.
وكذا الرقى المباحة: التي يُرقى بها الإنسان المريض كدعاءٍ مِنْ عنده ليس فيه شرك، جائزة.
ونتيجة – ما تقدم ذكره – أن الرقية: هي العوذة، بمعنى الالتجاء، فتكون الرقية على هذا المعنى (اللغوي) تشمل ما كان مشروعاً، أو ممنوعاً؛ فالكل يطلق عليه رقية.
فهناك رقية شرعية (جائزة)، وأخرى شركية (ممنوعة).
أما في الشرع: فيراد بالرقية المعنى المشروع وهو أن تكون الرقية أو العوذة بما كان من القرآن الكريم، والأدعية النبوية. أو بمعنى آخر: الرقى الشرعية هي التي لها أصل في الكتاب والسنة. والله تعالى أعلم.
ضوابط الرقية الشرعية
ذكر أهل العلم الإجماع على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط، وهي على النحو الآتي:
1 – أن تكون بكلام الله وبأسمائه وصفاته، أو بما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
2 – أن تكون باللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره.
3 – أن لا يعتقد أن الرقية تؤثر بذاتها بل التأثير من الله تعالى.
قال ابن حجر– يرحمه الله - : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع هذه الشروط.
وقال السيوطي – أيضاً -: قد أجمع العلماء على جواز الرقى، عند اجتماع ثلاثة شروط[24], وذكر تلك الشروط الثلاثة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله -: فكل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقى به، فضلاً عن أن يدعو به، ولو عرف معناها، وأنه صحيح؛ لكره أن يدعو الله بغير الأسماء العربية.
ويقول أيضاً: ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفقه معناها؛ لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شرك.
وقال الشيخ حافظ الحكمي– يرحمه الله -:
ثم الرقى من حُمَّةٍ أو عين 000فإن تكن من خالص الوحيين
فذاك من هدي النبي وشرعته 000وذاك لا اختلاف في سنيته
(فإن تكن) أي: الرقى (من خالص الوحيين) الكتاب والسنة، والمعنى من الوحي الخالص، بأن لا يدخل فيه من شعوذة المشعوذين، ولا يكون بغير اللغة العربية، بل يتلو الآيات على وجهها، والأحاديث كما رويت وعلى ما تلقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا همز ولا رمز، (فذاك) أي: الرقى من الكتاب والسنة هو من (هدي النبي) صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه والتابعون بإحسان (و) من (شرعته) التي جاء بها مؤدّياً عن الله عز وجل.
ويقول أيضاً:
أما الرقى المجهولة المعاني 000 فذاك وسواس من الشيطان
وفيه قد جاء الحديث أنه 000 شرك بلا مرية فاحذرنّه
إذ كل من يقوله لا يدري 000 لعله يكون محض الكفر
أي: أما الرقى التي ليست بعربية الألفاظ ولا مفهومة المعاني، ولا مشهورة ولا مأثورة في الشرع ألبتة، فليست من الله في شيء، ولا من الكتاب والسنة في ظلٍّ ولا فيءٍ، بل هي وسواس من الشيطان أوحاها إلى أوليائه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك", وذلك لأن المتكلم به لا يدري أهو من أسماء الله تعالى أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الشياطين، ولا يدري هل فيه كفر أو إيمان، وهل هو حق أو باطل، أو فيه نفع أو ضر أو رقية أو سحر. ولعمر الله لقد انهمك غالب الناس في هذه البلوى غاية الانهماك، واستعملوه على أضرب كثيرة وأنواع مختلفة....
وحول الشرط الثالث فالرقية لا تؤثر بذاتها بل التأثير بإذن الله تعالى؛ وذلك لأن الرقية سبب من الأسباب.
واعتقاد أن الرقية تؤثر بذاتها، اعتقاد فاسد، وهو من عقائد الجاهلية.
يقول الشيخ محمد العثيمين – يرحمه الله -: "أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله، فإن اعتقد بذاتها من دون الله فهو محرم؛ لأنه شرك، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله".
ومما يضاف إلى الشروط السابقة:
أن لا تكون الرقية بهيئة محرمة كأن يتقصد الرقية في حالة كونه جنباً أو في مقبرة أو حمام.
الآداب التي تتعلق بطالب الخواص
والمراد بطالب الخواص – كما تقدم – هو الذي يريد الانتفاع بخواص القرآن الكريم.
فمن جملة الضوابط والآداب الشرعية التي تتعلق بطالب الخواص الآتي:
أولاً: تحقيق التوحيد الخالص لله تعالى.
إذ لا بد من تحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
أ – توحيد الربوبية:
وهو إفراد الله – عز وجل – بالخلق والملك والتدبير، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق والمالك والمدبر لأمور الخلق، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فجميع ما في الكون خاضع لله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}.
فإذا حقق العبد هذا التوحيد عرف بأنه كل شيء بأمر الله، فلا يقع أمر، ولا يحل خير، أو يرتفع شر إلا بأمره – سبحانه وتعالى – وهذا يجعل العبد متعلقاً بالله سبحانه دون غيره، ويدعوه في كل نائبة وحاجة.
ب – توحيد الألوهية:
وهو إفراد الله – عز وجل – بالعبادة من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحو ذلك، فهو يتعلق بأعمال العبد وأقواله الظاهرة والباطنة.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
وهو التوحيد الذي دعت إليه جميع الرسل، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
فلا يعبد غيره – سبحانه وتعالى – ولا يدعى سواه، ولا يستعان ولا يُستغاث إلا به، فالواجب على العبد أن يجعل أعماله إلى الله وحده لا شريك له دون غيره، حتى يسلم من الوقوع في الشرك.
ج – توحيد الأسماء والصفات:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: =ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه – سبحانه وتعالى – وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرِّفون الكَلِم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيِّفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له ولا ندَّ له، ولا يُقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه أعلم بنفسه وبغيره؛ وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ ولهذا قال: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فهو وصف الله تعالى وتسميته بما وصف به نفسه، وبما وصفه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وإثبات ذلك له من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، قال الله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[42].وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وإذا علم العبد أن الله رحمان رحيم، طمع في رحمته ودعاه، فهو سبحانه الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وهو القريب لمن دعاه سبحانه وتعالى.
ولتحقيق التوحيد الخالص لله – عز وجل – بأنواعه الثلاثة الأثر الكبير الواضح في تحصيل المنافع وتحقيقها، ودفع المضار والشرور وإبعادها، بإذن الله تعالى.
ثانياً: الاعتصام بالكتاب والسنة:
قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
يقول السعدي – يرحمه الله – عند هذه الآية ما نصه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} أي: هذه الأحكام وما أشبهها، مما بينه الله في كتابه، ووضحه لعباده، صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر. {فَاتَّبِعُوهُ} لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: تضلكم عنه وتفرقكم، يميناً وشمالاً. فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم، علماً وعملاً، صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط، وأضافه إليه؛ لأنه سبيل واحد موصل إليه. والله هو المعين للسالكين على سلوكه.
وفي السنة المطهرة من الأحاديث الصحيحة، والأدعية المأثورة، ما يُغني عن غيرها من الأمور التي لا أصل لها، من الدعوات أو العبارات التي لا تخلو من خلل، إما من جهة العقيدة، أو من جهة الصحة والثبوت.
وفي القرآن الكريم، والسنة النبوية معاً من الخير الكثير، والنفع العظيم ما يحصل به الاستغناء التام عما سواهما في سائر الأمور الدنيوية والأخروية.
وإذا اعتصم العبد بالكتاب والسنة وُفِّق لكل خير، وعُصِم من كل شر؛ فأصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: تقوى الله – عز وجل – والإنابة إليه:
فمن كان يريد الانتفاع بالقرآن الكريم، يجب أن يكون تقيّاً يخاف الله – عز وجل – فيخوِّف الله منه عدوه، ويخشى الله فيجعل الله في وجهه مهابة، وبقدر ما يكون العبد المسلم تقياً لله بقدر ما يخضع له عدوه، والشيطان ضعيف بكفره ومعاصيه، والعبد قوي بإيمانه وتقواه.
فإن العبد إذا أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، وأصلح الله له دينه ودنياه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
يقول الحافظ ابن كثير – يرحمه الله – عند هذه الآية الكريمة: فإن من اتقى الله بفعل أوامره، وترك زواجره، وُفِّق لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه – وهو محوها – وغفرها: سترها عن الناس – سبباً لنيل ثواب الله الجزيل، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
يقول الحافظ ابن كثير – أيضاً – عند هاتين الآيتين: أي: ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهة لا تخطر بباله.
وعند قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}.
يقول – أيضاً -: أي: يسهل له أمره، وييسره عليه، ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً.
فتقوى الله – سبحانه وتعالى بلا شك – هي جماع الخير كله، ولا يخفى أثرها في تفريج الكربات، ودفع الشرور والآفات؛ فكلما اتقى العبد ربه وراقبه في السر والعلانية، رفع الله عنه البلاء، وأعطاه من أعظم العطاء، بإذنه جل وعلا.
رابعاً: حسن الاعتقاد، وتصحيح الأعمال القلبية:
فمن حسن الاعتقاد أن يبتعد العبد كل البعد عن الوقوع في الأمور الشركية أو البدعية، التي توصل صاحبها إلى ما لا تحمد عقباه.
وأن يسير في هذا المعتقد على منهج عقيدة السلف الصالح من هذه الأمة.
والمتأمل في نصوص الكتاب والسنة، يجدها تحث على التوحيد، وتؤكد حماية جنابه عن كل ما يشوبه، أو يخل به من الأقوال والأفعال؛ ليحقق العباد بذلك تمام العبودية لله – سبحانه وتعالى – فيحصل لهم بذلك الخير والفلاح، والسعادة في الدارين.
ومن حسن الاعتقاد صدق التوجه إلى الله – تبارك وتعالى – والتوكل عليه في جميع الأمور؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ومن حسن الاعتقاد – أيضاً – أن يعلم العبد أن النفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى، فليس لأحد من المخلوقين أمر المنفعة أو المضرة إلا بإذن الله.
خامساً: إخلاص النية، وسلامة المقصد:
فإن للنية أثراً في القراءة – بإذن الله تعالى – خصوصاً إذا استحضرها القارئ، واستصحبها في قراءته.
فهو لا يريد بما يقرأ أمور الدنيا من المال أو السمعة والشهرة، بل يريد بذلك ما عند الله والدار الآخرة، وحصول المنفعة، ورفع الأذى والمضرَّة.
قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث، والأحاديث في هذا الباب كثيرة ومعلومة.
وقد ذكر الزركشي – يرحمه الله – أنه لا يحصل الانتفاع بخواص القرآن الكريم إلا من أخلص لله قلبه ونيته.
ويتضح من كلام الزركشي – المتقدم – أهمية الإخلاص لله في هذا العمل، وارتباطه الوثيق في حصول المنفعة.
وقد توسع كثير من الناس في طلب المال الكثير، وأصبح المقصد حتى دخلت نياتهم بعض الشوائب التي لم تجعل لهذه القراءة بركة.
والواجب في هذا كله تقوى الله – عز وجل – ولا يجعل المال أو الدنيا أكبر همّه، وغاية قصده، فليتق الله في نفسه، ويراعي أحوال المحتاجين.
فمن هذا الباب يتعذر حصول المنفعة، ويدخل الشيطان بوسائله المتشعبة، وتتأثر النية، فالحذر الحذر من اختلال النية والمقصد؛ حتى يحصل بإذن الله تعالى، النفع والفائدة.
سادساً: صدق التوكل على الله، والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، مع الصبر والتحمل وتذكر الأجر
الواجب على العبد أن يصدق في التوكل على ربه – سبحانه وتعالى – ويعتمد كل الاعتماد على ربه في جميع الأمور، ويفوض أمره إليه – سبحانه وتعالى – مع الصبر والتحمل وتذكر الأجر العظيم عند الله، وأن الله – عز وجل – هو الذي يرفع البلاء ويدفعه.
وحقيقة التوكل على الله اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً.
قال الله تعالى: { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}.
فالملتجأ إلى الله – جل وعلا – فهو العاصم من كل شيء، وأمور العباد لديه سبحانه وتعالى، فهو المعتمد عليه في كل الأمور من الحصول على المصالح والمنافع، ودفع المضار والشرور على وجه العموم.
ومن توكل على الله، واعتمد عليه، وفوض أمره إليه كفاه، وحصل له بإذن الله تعالى الانتفاع في سائر الأمور.
فهو سبحانه الكافي والمعافي والشافي لمن توكل عليه، واعتمد وفوَّض أموره إلى خالقه سبحانه دون سواه.
وليس بيد أحد من المخلوقين إلا ما قَدَّر الله وكتبه، وأراده سبحانه وقضاه في سابق علمه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
ومع ذلك كله يجب على العبد لزوم الصبر، وقوة العزيمة، والثقة بالله سبحانه وتعالى، وأن لا يستعجل الشفاء والنفعة، ويتذكر الأجر العظيم عند الله الذي أعده سبحانه وتعالى للصابرين، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وكل ذلك يقوي العزيمة والصبر، وقد وعد الله المريض الصابر المحتسب أن يذهب خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة، والمرأة التي كانت تصرع، ويؤذيها ذلك الصرع في نفسها وحالها فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت صبرت ولك الجنة"[65]. وهذا مما يثبت في النفس الاحتساب والصبر، واللجوء إلى الله بما يحب ويرضى، ويجعل التوكل والاعتماد على الخالق سبحانه، دون الاعتماد على النفس أو على أحدٍ من الخلق.
وقد صدق في التوكل خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقي في النار فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فصدق الله معه، وكفاه ونجاه من كيد الظالمين، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد فكفاه الله المشركين وصدهم عنه.
وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
وروي عن رجل من أهل الكوفة قال: بينا أنا في بستان لي إذ خيّل لي رؤية شخص أسود ففزعت منه، فقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فساخ في الأرض وأنا أنظر إليه، وسمعت صوتاً من ورائي يقرأ هذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }فالتفت فلم أر شيئاً.
سابعاً: اعتقاد طالب الخاصية أن النفع والضر بيد الله تعالى:
فالواجب على العبد أن لا يعتقد أن القراءة تنفع بذاتها دون الله، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله، وأن يتوجه إلى الله – عز وجل – بإخلاص وصدق مع إظهار الافتقار إلى الله – سبحانه وتعالى – ورحمته ولطفه، والصدق في طلب كشف الضر والبلاء.
قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
يقول الحافظ ابن كثير – يرحمه الله – عند هذه الآية: وقوله: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } الآية. "فيه بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده، لا يشاركه في ذلك أحد، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.
ويقول السعدي – يرحمه الله – عند هذه الآية ما نصه: "هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع، الضار، المعطي، المانع، الذي إذا مسّ بضر، كفقر ومرض ونحوها {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} لأن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحداً، لم يقدروا على شيء من ضرره إذا لم يرده. ولهذا قال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} أي: لا يقدر أحد من الخلق أن يرد فضله وإحسانه، كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: يختص برحمته من شاء من خلقه، والله ذو الفضل العظيم {وَهُوَ الْغَفُورُ}لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها وصغارها {الرَّحِيمُ} الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين، فإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات، وأن أحداً من الخلق، ليس بيده من هذا شيء، إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل".
فالواجب على العبد أن يتعلق قلبه بالله – عز وجل – دون غيره من المخلوقين، فالله – سبحانه وتعالى – هو الذي بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فالقراءة لا تؤثر بذاتها بل بإذن الله – عز وجل – وإنما هي سبب من الأسباب، والاعتماد الكامل على مسببها، وهو الله – سبحانه وتعالى – فيكون تعلق القلب الكامل بالله – عز وجل – دون تعلقه بالناس أو غيرهم.
ثامناً: الإقبال على الله – جلا وعلا – مع التوبة النصوح، والتخلص من المعاصي والآثام والمظالم
إن الإقبال على الله – سبحانه وتعالى – والتوبة إليه من كل ذنب وخطيئة، مستوفية شروطها الأربعة:
الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى وسلف من المعاصي والآثام، والعزم الصادق على عدم الرجوع إليها، ورد الحقوق التي أخذت بالظلم والعدوان إلى أهلها ومستحقيها؛ كل ذلك سبب رئيس في رفع البلاء، وحصول النفع للعبد في دنياه وآخرته، والعكس بالعكس، نسأل الله العافية والسلامة.
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}فإن كثيراً من الشرور وعدم القبول الذي يحصل للعبد، إنما يكون بسبب الذنوب والمعاصي، وظلم العبد نفسه وغيره، والتوبة إلى الله من ذلك كله ترفع البلاء – بإذن الله تعالى -.
ومن الإقبال على الله، حفظ الله في كل شيء؛ باتباع الأوامر واجتناب النواهي، فمن حفظ الله، حفظه الله من كل سوء ومكروه.
وفي الحديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".
فقوله عليه الصلاة والسلام: "احفظ الله" يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين حدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه، وقال عز وجل:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}.
وفسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة، والطهارة، وحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله.
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلَّة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان.
فمن حفظ الله، حفظه الله، ومن ضيَّع الله، ضيعه الله؛ فالجزاء من جنس العمل.
ومن الإقبال على الله – سبحانه وتعالى – الاستقامة على دين الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}
ذكر أهل العلم من معاني الاستقامة في هذه الآية: أن لا يشرك العبد بالله شيئاً، وأن يستقيم على الأمر والنهي، وأن يخلص العمل لله، وأن يستقيم على أداء الفرائض.
ومن الإقبال على الله، الإقبال بالعمل الصالح، من بذل للصدقة والمعروف، والإصلاح بين الناس، والقيام بحاجاتهم، والمحافظة على الصلوات المكتوبات؛ ليكون في ذمة الله في الصباح والمساء، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في هذه الأبواب الصالحة كثيرة ومعلومة.
فبمثل هذه الأعمال الصالحة، يوفق العبد لكل خير، وينتفع بكل عمل، ويدفع الله بها عنه كل شر ومكروه.
ويشهد لهذا كله، الواقع والحال فيمن يحرص على تلك الأعمال الصالحة.
تاسعاً: العمل بالقرآن الكريم، وتدبر ألفاظه:
يقول ابن القيم – يرحمه الله -:"وأما التأمل في القرآن؛ فهو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله.
وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا تفهّم ولا تدبر، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[82] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
وقال الحسن رضي الله عنه: نزل القرآن ليُتدبَّر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل له وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما... فلا تزال معانيه تُنهِضُ العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التَّضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظُلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، ... وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل....
ويقول الزركشي في البرهان: هذا النوع والذي قبله لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيَّته، وتدبر الكتاب في عقله وسمعه، وعمر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره، وتمسك به وتدبره.
هنالك تأتيه الحقائق من كل جانب؛ وإن لم يكن بهذه الصفة كان فعله مكذباً لقوله....
ويقول – أيضاً – ابن القيم – يرحمه الله – في مفتاح دار السعادة: =فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأ بتفكر حتى مرَّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرَّة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول ذوق حلاوة القرآن، هذه عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح... فقراءة القرآن هي أصل صلاح القلب... .
عاشراً: المحافظة على تلاوة القرآن الكريم، وملازمة الذكر الصالح:
فمن المعلوم أن لذكر الله – جل وعلا – والمحافظة على الذكر الصالح من الأدعية والأذكار الصحيحة، الأثر الكبير في جلب المنافع، ودفع المضار عن العبد – بإذن الله تعالى.
ولا تخفى فائدة الذكر على وجه العموم، وأفضل الذكر – بلا شك – القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وفي المحافظة على قراءة القرآن الكريم، وحفظه، والذكر الصحيح الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق الانتفاع للعبد المحافظ عليها في ليله ونهاره، وسائر أحواله.
فمن القرآن الكريم على سبيل المثال؛ لا على سبيل الحصر، فالقرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين، سورة الفاتحة، وسورة البقرة، وفيها آية الكرسي، وآخر آيتين من سورة البقرة، والمعوذتين، فكل هذه تطرد الشياطين، وتحفظ بحفظ الله – سبحانه وتعالى – من كل سوء ومكروه، والأحاديث الصحيحة الدالة على هذا الأمر واضحة ومعلومة.
ومن الذكر الصالح، الاستعاذة بالله من كل شيء، والتسمية في كل شيء، والدعاء، وذكر اسم الله على الدوام في جميع الأقوال والأفعال والأحوال، إلا ما استثني، ويلتزم في ذلك على وجه الخصوص بالأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فهي الأدعية التي تحتوي جوامع الكلم، وتشمل خير الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[91] وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}.
فمن حافظ على ذكر الله ولازمه حريٌّ به أن ينتفع بهذا القرآن الكريم ويحفظ بحفظ الله، من كل سوء ومكروه، ويرتفع عنه كل شر وبلاء، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
الحادي عشر: ارتفاع الموانع الحاجبة عن الانتفاع بالخاصية:
إن من أسباب تحقق الانتفاع بالقرآن الكريم، ارتفاع الموانع الحاجبة عن الانتفاع بخواصه، ومن ذلك الوقوع في الذنوب والمعاصي، واتباع الهوى، وطاعة النفس في الوقوع فيما حرم الله، فكل ذلك يمنع من الانتفاع بخواص القرآن الكريم.
وبالحرص على أسباب النفع، والسعي في تحقيقها تحصل المنفعة، وتتحقق الغاية في حصول الانتفاع بخواص القرآن الكريم على وجه العموم.
قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}.
فالمحافظة على الصلاة من أسباب الحصول على حفظ الله للعبد، ومما يقوي صلة العبد بربه – سبحانه وتعالى – وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء".
وفي الحديث – أيضاً – عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدي، الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه".
وفي رواية أخرى: "من سرَّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي وإنهن من سنن الهدى".
فلا شك أن من ترك الصلاة، قد ارتكب أعظم الموانع في حق نفسه، وقطع الصلة التي بينه وبين ربه، وإذا لم يحفظك الله فمن الحافظ لك بعد الله، وإذا لم تكن في ذمة الله، فمن تكون في ذمته!؟ والله المستعان.
ومن الموانع التي تحرم العبد، وتبعده عن الحصول على منافع هذا القرآن الكريم وخواصه وجود التصاوير والتماثيل، وأصوات الغناء والمزامير، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير".
وكذا الاستماع إلى المعازف والموسيقى، والوقوع في المعاصي، فكل هذه الأمور تبعد الملائكة والخير، وتقرِّب الشياطين والشر، نسأل الله العافية والسلامة. فالواجب على العبد أن يرفع عن نفسه هذه الموانع، التي تحول بينه وبين ما يحصل عليه من الانتفاع والخير بكلام رب العالمين.
تســــــاؤل:
هل لا بد من الالتزام والعمل بهذه الضوابط والآداب الشرعية؛ للانتفاع بخواص القرآن الكريم؟
أو بمعنى آخر:
هل عدم توفر أحد هذه الضوابط والآداب الشرعية يكون السبب في عدم الانتفاع بخواص القرآن الكريم؟
الجــــــواب:
لا شك أن هذه الضوابط والآداب الشرعية المذكورة؛ سبب رئيس في الانتفاع بخواص القرآن الكريم، فكلما توفرت هذه الضوابط والآداب الشرعية كان الانتفاع بخواص القرآن الكريم أكثر وأعظم وأقوى، وكلما تأخر بعضها، أو ترك كان النفع والتأثير أقل وأضعف.
وعليه فالواجب على العبد أن يحرص على توافر هذه الضوابط والآداب الشرعية التي تحقق الانتفاع بخواص القرآن الكريم – بإذن الله تعالى – ليحصل له بذلك الخير الكثير، والنفع العظيم، والله تعالى أعلم.
يقول فضيلة الشيخ عبدالله الجبرين – يحفظه الله – حول هذا الموضوع، في صفات وآداب الراقي بالرقية الشرعية: لا تفيد القراءة على المريض إلا بشروط:
الشرط الأول: أهلية الراقي: بأن يكون من أهل الخير والصلاح والاستقامة والمحافظة على الصلوات والعبادات والأذكار والقراءة والأعمال الصالحة وكثرة الحسنات، والبعد عن المعاصي والبدع والمحدثات والمنكرات وكبائر الذنوب وصغائرها، والحرص على الأكل الحلال، والحذر من المال الحرام أو المشتبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأنى يُستجاب له".
فطيب المطعم من أسباب قبول الدعاء، ومن ذلك عدم فرض الأجرة على المرضى، والتنزه عن أخذ ما زاد على نفقته فذلك أقرب إلى الانتفاع برقيته.
الشرط الثاني: معرفة الرقى الجائزة من الآيات القرآنية: كالفاتحة، والمعوذتين، وسورتي الإخلاص، وآخر سورة البقرة، وأول سورة آل عمران وآخرها، وآية الكرسي،... ومن الأدعية القرآنية المذكورة في الكلم الطيب ونحوه...
الشرط الثالث: أن يكون المريض من أهل الإيمان والصلاح والخير والتقوى والاستقامة على الدين، والبعد عن المحرمات والمعاصي والمظالم، قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}.
وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} فلا تؤثر غالباً في أهل المعاصي وترك الطاعات وأهل التكبر والخيلاء والإسبال وحلق اللحى والتخلف عن الصلاة وتأخيرها والتهاون بالعبادات ونحو ذلك.
الشرط الرابع: أن يجزم المريض بأن القرآن شفاء ورحمة وعلاج نافع، فلا يفيد إذا كان متردداً يقول: أفعل الرقية كتجربة إن نفعت وإلا لم تضر؛ بل يجزم بأنها نافعة حقاً، وأنها هي الشفاء الصحيح كما أخبر الله تعالى. فمتى تمت هذه الشروط نفعت بإذن الله تعالى، والله أعلم.
المبحث الثاني: ضوابط وآداب تتعلق بالخواص ذاتها
أولاً: أن تكون الخاصية مشروعة:
والمراد هنا أن لا تكون القراءة مما يخالف الشرع، كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك فإنها محرمة، بل هي الشرك بالله تعالى، وأن تكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة فإنها لا تجوز.
وليحذر تمام الحذر من الوقوع في الأمور الشركية أو البدعية، أوالدخول في الشعوذة والطلاسم المجهولة من الرموز والحروف والأشكال الغير معروفة. فالواجب الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة، وتلاوة الآيات على وجهها، والعمل بالأحاديث النبوية كما رويت وتلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلحق بهذا ما كان من الذكر الصالح والدعاء النافع.
يقول الشيخ حافظ الحكمي – يرحمه الله – حول هذا الموضوع:
وتارة يكتبون السورة أو الآية ويكرِّرونها مرات عديدة بهيئات مختلفة حتى يجعلون أولها آخِراً وآخرها أولاً، وأوسطها أولاً في موضع وآخِراً في آخر. وتارة يكتبونها بحروف مقطعة كل حرف على حدته، ويزعمون أن لها بهذه الهيأة خصوصية ليست لغيرها من الهيئات، ولا أدري من أين أخذوها وعمن نقلوها، ما هي إلا وساوس شيطانية زخرفوها، وخُرافات مُضلَّة ألفوها، وأكاذيب مختلفة لفقوها، لم ينزل الله بها من سلطان، ولا يعرف لها أصل في سنة ولا قرآن، ولم تنقل عن أحد من أهل الدين والإيمان، إن هؤلاء إلا كاذبون، أفَّاكون مفترون، وسيجزون ما كانوا يعملون.
وتارة يكتبون رموزاً من الأعداد العربية المعروفة من آحاد وعشرات ومئات وألوف وغيرها، ويزعمون أنها رموز إلى حروف آية أو سورة أو اسم أو شيء مما قدمنا بحساب الحروف الأبجدية المعروفة عند العرب، وغير ذلك من الخرافات الباطلة، والأكاذيب المفتعلة المختلفة، وغالبها مأخوذ عن الأمة الغضبية الذين أخذوا السحر عن الشياطين وتعلموه منهم، ثم أدخلوا ذلك على أهل الإسلام بصفة أنه من القرآن أو السنة أو أسماء الله تعالى، وأنهم إنما غيروا ألفاظه وترجموها بغير العربية لمقاصد لا تتم بزعمهم إلا بذلك، ومنها ما هو من عباد الملائكة والشياطين ونحوهم، يأخذون أسماءهم ويقولون للجهال هي أسماء الله ليروجوا الشرك بذلك عليهم فيدعون غير الله من دونه، وهذه مكيدة لم يقدر عليها إبليس إلا بوساطة هؤلاء المضلين، وهو: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[سورة فاطر: 6]، والله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة العنكبوت: 51] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور: 40] .
وخواص القرآن الكريم ثابتة في الكتاب والسنة المطهرة، وسالمة من المخالفات الشرعية، والمسلم في غنية عن تلك المخالفات، ومأمور بالبعد عنها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله.
فبقراءة سورة من سور القرآن الكريم، أو آية، أو قراءة سور وآيات قرآنية يتحقق الخير الكثير من جلب المنافع ودفع المضار.
قراءة فاتحة الكتاب على اللديغ والقصة في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – كما تقدم – حتى قام اللديغ وكأنه لم يصب.
وقراءة سورة البقرة، وآية الكرسي، وآخر آيتين من سورة البقرة، فسورة البقرة لا تستطيعها السحرة، وآية الكرسي من قرأها لا يزال معه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ومن قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، والمعنى: كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات، ويحتمل من الجميع.
وقراءة المعوذتين (سورة الفلق، وسورة الناس) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، وأيضاً إذا مرض أحد من أهله نفث عليه صلى الله عليه وسلم بالمعوذات، فلما اشتكى وجعه عليه الصلاة والسلام الذي مات فيه جعلت عائشة رضي الله عنها تقرأ بها عليه, وتمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم رجاء بركتها.
ونحو هذه الآيات الكريمة، والأدعية القرآنية المذكورة في الكلم الطيب ونحوه.
وكذا الأدعية الثابتة في السنة النبوية، ومن أمثلة ذلك:
ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اشتيكت؟ فقال: (نعم) قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك".
وفي صحيح مسلم – أيضاً – عن عثمان بن أبي العاص الثقفي – رضي الله عنه – أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله، ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر[6]. وفي رواية: قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل ما كان بي، فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله: يمسح بيده اليمنى ويقول: =اللهم رب الناس، اذهب الباس، واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً.
وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم السلمية – رضي الله عنها – أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: =من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك، ونحو ذلك من الاستعاذة بالله في كثير من الأحوال.
وكذا جوامع الدعاء، والكلم الطيب الذي يشتمل على خير الدنيا والآخرة، مثل ما ورد ذكره في الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم – يرحمه الله – وفي زاد المعاد له أيضاً، وفي كتاب الأذكار للنووي – يرحمه الله -.
وفي هذه كله غنية عن غيره من الوقوع في مخالفة الشرع المطهر، أو الوقوع في جنس الطلاسم والشعوذة، والأمور البدعية أو الشركية.
ثانياً: ثبوت كونها خاصية فيما يراد الانتفاع به:
ثبت في السنة النبوية أن سورة الفاتحة تقرأ على اللديغ، كما ورد في رقية الصحابي لذلك اللديغ بأم القرآن، فقام يمشي وكأنه لم يصب بأذى.
وثبت أيضاً أن آية الكرسي سبب للحفظ من وسوسة الشيطان، ورويت آثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين في العلاج ببعض الآيات القرآنية، والأدعية النبوية – كما تقدم.
وجُرِّبت آيات السحر الثلاث في سورة الأعراف، ويونس، وطه، فوُجِدت مؤثرة في حل السحر، وفي علاج المحبوس عن أهله، وكذا قراءة المعوذتين.
وبالتجربة – أيضاً – تجد كثيراً من الأمراض تستعصي على الأطباء الحذَّاق الذين يعالجون المرضى بالأمور المادية من الإبر والحبوب والعمليات، ثم يعالجها القراء الناصحون المخلصون بالقرآن الكريم فتبرأ – بإذن الله تعالى – فمعرفة الأدعية والأوراد والآيات القرآنية التي تقرأ لها تأثير واضح بإذن الله.
وخاصية سورة الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين ونحو ذلك، واضحة – كما تقدم – في ثبوت كونها خاصية فيما يراد الانتفاع به، فهذه مقدمة – ولا شك – على غيرها في ثبوت كونها خاصية نافعة – بإذن الله تعالى – في هذا الباب (اللديغ – الحفظ من الشيطان ودفع وسوسته... ونحو ذلك، ودلت على ذلك السنة النبوية – كما تقدم -.
يقول ابن القيم – يرحمه الله – عن سورة الفاتحة:
تضمن هذا الحديث (يعني حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – في قصة اللديغ) حصول شفاء ذلك اللديغ بقراءة الفاتحة عليه، فأغنته عن الدواء، وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء، هذا مع كون المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم، فكيف إذا كان المحل قابلاً.
وقال في موضع آخر: وحق لسورة تشتمل على هذا الشفاء أن يُستشفى بها من كل مرض.
ويقول أيضاً في الحديث عن خواص هذه السورة: =وحقيق بسورة هذا بعض شأنها، أن يُستشفى بها من الأدواء، ويُرقى بها اللديغ.
ثم ذكر تجربته في الاستشفاء بها في مكة المكرمة، وأنه جرَّب ذلك مراراً عديدة فنفعت – بإذن الله – وأنها من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – عن آية الكرسي:
جرَّب المجربون – الذين لا يحصون كثرة – أن لها من التأثير في دفع الشياطين، وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته؛ فإن لها تأثيراً عظيماً في دفع الشيطان عن نفس الإنسان، وعن المصروع، وعن من تعينه الشياطين، مثل أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب السماع والمكاء والتصدية، إذا قرئت عليهم بصدق دفعت