أهلة الشهور الهجرية بينالرؤية الشرعية والحسابات الفلكية
توطئـــة :
]هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[(يونس-5)
]يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج[(البقرة-189)
الحمد لله رب العالمين، فاطر السموات و الأرض، جاعل الليل سكنا والشمس و القمر حسبانا، الذي فرض الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا، و ولاهم قبلة يرضونها، و الصلاة و السلام على أشرف النبيين و خاتم المرسلين محمد بن عبد الله نبي الهدى والرحمة و على آله وصحبه و من اتبع هديه إلى يوم الدين و بعد:-
لقد فرض الإسلام من خلال فروضه و أحكامه على المسلمين استخدام العلم و توظيفه في حياتهم اليومية ليس على مدار السنة و الشهر و اليوم فحسب، و إنما على مدار الساعة، بل حتى الدقيقة و أجزائها.
كما أمر الإسلام بالعلم و جعله فريضة على كل مسلم، و اقسم الله سبحانه و تعالى بالقلم و ما نسطر به، و رفع الذين أوتوا العلم درجات، و جعلهم قرناء لله و للملائكة بالشهادة على وحدانيته و قيمومته بالقسط. فانسحبت هذه الفروض و الأوامر على جميع المسلمين عامة، و على أهل العلم بخاصة، فالمسلم يجب أن يتجه ( أيا كان موقعه على هذه الأرض) إلى القبلة خمس مرات كل يوم و ليلة، و القبلة محددة بموقع واحد فقط على هذه الأرض، ألا وهي كعبة المسلمين و قبلتهم، و ليس سهلا أن يتعرف الإنسان على اتجاه وقوفه نحو القبلة، و هو في مكان متغير و متباعد، من غير دراية أو علم، و قد ربط الإسلام فروض الصلاة، بحركة الشمس الظاهرية و مدارج الليل، فجرا و شروقا و زوالا وعصرا و غروبا و عشاء. و ربط الصوم و الحج و هي فروض بني الإسلام عليها بحركة القمر و دورانه و مطالعه، موقعا و زمنا و حركة. و ما كان من السهل على أبناء الجزيرة العربية في صدر الإسلام، أن يتعرفوا على موقع القبلة واتجاهها مثلا، لو لم يكونوا متمرسين في معرفة مواقع النجوم، و الاهتداء بمواقعها ، ثم أن اتساع رقعة موطن الإسلام و امتداده في القرن الأول من الهجرة، على مساحة ثلثي المعمورة استوجب على المسلمين كافة أن يحسبوا الحساب الدقيق لأداء فروضهم، برؤية صحيحة و سليمة و دقيقة. فتوجه الخلفاء و الأمراء إلى العلماء يشجعونهم على طلب العلم أولا، و توظيفه في خدمة الشريعة ثانيا، ليوحدوا أداء المسلمين لها ثالثا. حتى نهل العلماء المسلمون، باختلاف مناهجهم ومجالات علومهم، من مناهل المعرفة الوضاءة، وهم يبتغون وجه الله، تأدية فروضه، من كل ما سبقهم من علم أو معارف، للاطلاع عليها، و للتثبت من مصداقيتها من ناحية، و توظيفها في حياتهم اليومية و الشرعية من ناحية أخرى، مما تطلب الإبداع و الريادة، ثم توسيع قواعد العلوم ومعارفها، و ابتكار الأجهزة و الآلات المعينة لهم، و تحقيق أهدافهم فضلا عن بناء المراصد الفلكية، و إعداد الأزياج والجداول الفلكية، و التقاويم على اختلاف أنواعها و أغراضها، بغية إدراك الفروق القائمة بين التقويمين ، القمري والشمسي إذ هم أول من أدركها، و ابتكروا النظام الستيني لحسابها، و تابعوا كل التغيرات الفلكية التي تؤدي بهم إلى ضبط حساب الأيام و السنين] لتعلموا عدد السنين و الحساب[ (سورة يونس الآية 5)، و إلى أكثر من ذلك فيكونوا أكثر عشقا للعلم ليتقربوا إلى الله به.
من هنا كان الإسلام منطلقا ثوريا رائدا، و دافعا للعلم بعامة، و لعلوم الفلك بخاصة، راسما منهاجا علميا دقيقا للمسلمين، للغوص في هذا العلم،و التبحر فيه بغية تقديم المنفعة العامة للمسلمين في تأدية فروضهم ومناسكهم من جهة، و التفكير في خلق السموات و الأرض، تعزيزا لإيمانهم بالله سبحانه من جهة أخرى.
و الذي دفعني إلى التفكير في كتابة هذا البحث هو :
ما عليه حال الأمة الإسلامية من الاختلاف في تعيين أوائل الشهور العربية الهجرية بين الدول الموزعة على سطح الكرة الأرضية، و بخاصة عند تعيين مواقيت المواسم الإسلامية المتصلة بالعبادات (رمضان و شوال و ذي الحجة و ربيع الأول و بداية العام الهجري (محرم)) ، إذ يبدو هذا الاختلاف واضحا بين حين و آخر، لدى الأمة الإسلامية، و هي الأمة المعروفة بعراقتها في التقاويم و المشهورة بريادتها في علوم الطبيعة و الرياضيات و الفلك و غيرها وما زالت بصماتها واضحة إلى يومنا هذا في مجالات هذه العلوم. وقد يكون الاختلاف طبيعيا، بسبب تباعد المواقع الجغرافية على سطح الأرض، و في ذلك شيء من المنطق، لا غبار عليه و لكن عندما يكون الاختلاف نتيجة عدم دقة الحساب، أو التوهم بالرؤية أو الإدعاء بالرؤية وإن لم يلد القمر بعد ، فذلك أمر يجب الاحتياط له و الأخذ بأسباب العلم وسيلة لتوثيقه و اعتماده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق